سورة ق - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1)}
{ق والقرءان المجيد} وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور:
الأول: أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد، لقوله تعالى فيها {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} [ق: 42] وقوله تعالى: {كذلك الخروج} [ق: 11] وقوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] فإن العيد يوم الزينة، فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب، ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً، ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوله في آخر السورة {فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله: {ق والقرءان}.
الثاني: هذه السورة، وسورة {ص} تشتركان في افتتاح أولهما بالحروف المعجم والقسم بالقرآن وقوله: {بَلِ} والتعجب، ويشتركان في شيء آخر، وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، وذلك لأن في {ص} قال في أولها {ص والقرءان ذِى الذِكْر} [ص: 1] وقال في آخرها {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} [ص: 87] وفي {ق} قال في أولها {ق والقرءان} وقال في آخرها {فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] فافتتح بما اختتم به.
والثالث: وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، بقوله تعالى: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا} [ص: 5] وقوله تعالى: {أَنِ امشوا واصبروا على آلهتكم} [ص: 6] وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر، بقوله تعالى: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] ولما كان افتتاح السورة في {ص} في تقرير المبدأ، قال في آخرها {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ} [ص: 71] وختمه بحكاية بدء (خلق) آدم، لأنه دليل الوحدانية. ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر، قال في آخرها {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] وأما التفسير، ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل {ق} اسم جبل محيط بالعالم، وقيل معناه حكمة، هي قولنا: قضى الأمر. وفي ص: صدق الله، وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن، ليبقى السامع مقبلاً على استماع ما يرد عليه، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق.
وذكرنا أيضاً أن العبادة منها قلبية، ومنها لسانية، ومنها جارحية ظاهرة، ووجد في الجارحية ما عقل معناه، ووجد منها ما لم يعقل معناه، كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما، ووجد في القلبية ما عقل بدليل، كعلم التوحيد، وإمكان الحشر، وصفات الله تعالى، وصدق الرسل، ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق، والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر، والميزان الذي يوزن به الأعمال، فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه، ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض، كقولنا ربنا اغفر لنا وارحمنا بل يكون النطق به تعبداً محضاً، ويؤيد هذا وجه آخر، وهو أن هذه الحروف مقسم بها، وذلك لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة، وآلة التعريف كان أولى، وإذا عرفت هذا فنقول على هذا فيه مباحث:
الأول: القسم من الله وقع بأمر واحد، كما في قوله تعالى: {والعصر} وقوله تعالى: {والنجم} وبحرف واحد، كما في قوله تعالى: {ص} و{ن} ووقع بأمرين، كما في قوله تعالى: {والضحى واليل إِذَا سجى} وفي قوله تعالى: {والسماء والطارق} وبحرفين، كما في قوله تعالى: {طه} و{طس} و{يس} و{حم} وبثلاثة أمور، كما في قوله تعالى: {والصافات... فالزجرات... فالتاليات} وبثلاثة أحرف، كما في {الم} وفي {طسم والر} وبأربعة أمور، كما في {والذريات} وفي {والسماء ذَاتِ البروج} وفي {والتين} وبأربعة أحرف، كما في {المص المر} وبخمسة أمور، كما في {والطور} وفي {والمرسلات} وفي {والنازعات} وفي {والفجر} وبخمسة أحرف، كما في {كهيعص وحمعسق} ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي {والشمس وضحاها} ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول، لأنه يجمع كلمة الاستثقال، ولما استثقل حين ركب لمعنى، كان استثقالها حين ركب من غير إحاطة العلم بالمعنى أو لا لمعنى كان أشد.
البحث الثاني: عند القسم بالأشياء المعهودة، ذكر حرف القسم وهي الواو، فقال: {والطور} {والنجم} {والشمس} وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم، فلم يقل و{ق وحم} لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به، فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف.
البحث الثالث: أقسم الله بالأشياء: كالتين والطور، ولم يقسم بأصولها، وهي الجواهر الفردة والماء والتراب. وأقسم بالحروف من غير تركيب، لأن الأشياء عنده يركبها على أحسن حالها، وأما الحروف إن ركبت بمعنى، يقع الحلف بمعناه لا باللفظ، كقولنا (والسماء والأرض) وإن ركبت لا بمعنى، كان المفرد أشرف، فأقسم بمفردات الحروف.
البحث الرابع: أقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة، وبالأشياء التي عددها عدد الحروف، وهي غير {والشمس} في أربع عشرة سورة، لأن القسم بالأمور غير الحروف وقع في أوائل السور وفي أثنائها، كقوله تعالى: {كَلاَّ والقمر * واليل إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 32، 33] وقوله تعالى: {واليل وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17] وقوله: {واليل إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] والقسم بالحروف لم يوجد ولم يحسن إلا في أوائل السور، لأن ذكر ما لا يفهم معناه في أثناء الكلام المنظوم المفهوم يخل بالفهم، ولما كان القسم بالأشياء له موضعان والقسم بالحروف له موضع واحد جعل القسم بالأشياء في أوائل السور على نصف القسم بالحروف في أوائلها.
البحث الخامس: القسم بالحروف وقع في النصفين جميعاً بل في كل سبع وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير بل لم يوجد إلا في السبع الأخير غير والصافات، وذلك لأنا بينا أن القسم بالحروف لم ينفك عن ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل بعده إلا نادراً فقال تعالى: {يس * والقرءان الحكيم} [يس: 1، 2] {حم * تَنزِيلُ الكتاب} [غافر: 1، 2] {الم * ذلك الكتاب} [البقرة: 1، 2] ولما كان جميع القرآن معجزة مؤداة بالحروف وجد ذلك عاماً في جميع المواضع ولا كذلك القسم بالأشياء المعدودة، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في سورة العنكبوت، ولنذكر ما يختص بقاف قيل إنه اسم جبل محيط بالأرض عليه أطراف السماء وهو ضعيف لوجوه:
أحدها: أن القراءة الكثيرة الوقف، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج، لأن من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به.
وثانيها: أنه لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كما في قوله تعالى: {والطور} وذلك لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأن يقسم به، كقولنا الله لأفعلن كذا، واستحقاقه لهذا غني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال زيد لأفعلن ثالثها: هو أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب {عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] ويكتب {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وفي جميع المصاحف يكتب حرف {ق}، رابعها: هو أن الظاهر أن الأمر فيه كالأمر في {ص}، {ن}، {حم} وهي حروف لا كلمات وكذلك في {ق} فإن قيل هو منقول عن ابن عباس، نقول المنقول عنه أن قاف اسم جبل، وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا، وقيل إن معناه قضى الأمر، وفي {ص} صدق الله، وقيل هو اسم الفاعل من قفا يقفو وص من صاد من المصاداة، وهي المعارضة، معناه هذا قاف جميع الأشياء بالكشف، ومعناه حينئذ هو قوله تعالى: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] إذا قلنا إن الكتاب هناك القرآن. هذا ما قيل في {ق} وأما القراءة فيه فكثيرة وحصرها بيان معناها، فنقول إن قلنا هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف إذ لا عامل فيها فيشبه بناء الأصوات ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين، ويجوز الفتح اختياراً للأخف، فإن قيل كيف جاز اختيار الفتح هاهنا، ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول أخرى كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} [البينة: 1] {وَلاَ تَطْرُدِ الذين} [الأنعام: 52]؟ نقول لأن هناك إنما وجب التحريك وعين الكسر في الفعل للشبهة تحرك الإعراب، لأن الفعل محل يرد عليه الرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر فاختيرت الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر، لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ولو فتح لاشتبه بالنصب، وأما في أواخر الأسماء فلا اشتباه، لأن الأسماء محل ترد عليه الحركات الثلاث فلم يكن يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف، وأما إن قلنا إنها حرف مقسم به فحقها الجر ويجوز النصب بجعله مفعولاً باقسم على وجه الاتصال، وتقدير الباء كأن لم يوجد، وإن قلنا هي اسم السورة، فإن قلنا مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ ففتح في موضع الجر كما تقول وإبراهيم وأحمد في القسم بهما، وإن قلنا إنه ليس مقسماً بها وقلنا اسم السورة، فحقها الرفع إن جعلناها خبراً تقديره: هذه (ق)، وإن قلنا هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا هذا داع وراع، وإن قلنا اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسماً، ولنعد إلى التفسير فنقول الوصف قد يكون للتمييز وهو الأكثر كقولنا الكلام القديم ليتميز عن الحادث والرجل الكريم ليمتاز عن اللئيم، وقد يكون لمجرد المدح كقولنا الله الكريم إذ ليس في الوجود إله آخر حتى نميزه عنه بالكريم، وفي هذا الموضع يحتمل الوجهين، والظاهر أنه لمجرد المدح، وأما التمييز فبأن نجعل القرآن اسماً للمقروء، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] والمجيد العظيم، وقيل المجيد هو كثير الكرم وعلى الوجهين القرآن مجيد، أما على قولنا المجيد هو العظيم، فلأن القرآن عظيم الفائدة، ولأنه ذكر الله العظيم، وذكر العظيم عظيم، ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق، وهو آية العظمة يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني والقرءان العظيم} [الحجر: 87] أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و{لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فهو غير مقدور عليه فهو عظيم، وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده، وإنه مغن كل من لاذ به، وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد، فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم، وفيه مباحث:
الأول: القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا؟ نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول، ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظاً إلا {ق} فيكون التقدير: هذا {ق والقرءان المجيد} أو {ق} أنزلها الله تعالى: {والقرءان} كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله، وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة، فنقول ذلك أمران: أحدهما: المنذر والثاني: الرجع، فيكون التقدير: والقرآن المجيد إنك المنذر، أو: والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهراً، أما الأول: فيدل عليه قوله تعالى: {يس * والقرءان الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} إلى أن قال: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} [ياس: 1 6].
وأما الثاني: فدل عليه قوله تعالى: {والطور * وكتاب مُّسْطُورٍ} إلى أن قال: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 1 7] وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال: {ق} اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن، وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن، فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك؟ قلت الأول: لأن المنذر أقرب من الرجع، ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه مرسلاً ومنذراً، وما رأينا الحروف ذكرت وبعدها الحشر، واعتبر ذلك في سور منها قوله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ لِتُنذِرَ} [السجدة: 1 3] ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول الله، فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم، وليس هو بنفسه دليلاً على الحشر، بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول، وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية، فهو كون محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ولكلامه صفة الصدق، فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه والثاني: {بَلْ عَجِبُواْ} [ق: 2] يقتضي أن يكون هناك أمر مضرب عنه فما ذلك؟ نقول قال الواحدي ووافقه الزمخشري إنه تقدير قوله ما الأمر كما يقولون ونزيده وضوحاً، فنقول على ما اخترناه: فإن التقدير، والله أعلم ق والقرآن المجيد إنك لتنذر، فكأنه قال بعده وإنهم شكوا فيه فأضرب عنه.


{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)}
يعني لم يقتنعوا بالشك في صدق الأمر وطرحه بالترك وبعد الإمكان، بل جزموا بخلافه حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، فإن قيل فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمضرب عنه، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوفيق العزيز؟ فنقول إنما حذف المقسم عليه لأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر، وذلك لأن من ذكر الملك العظيم في مجلس وأثنى عليه يكون قد عظمه، فإذا قال له غيره هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاً على عظمته فوق ما يستفيد صاحبه بذكره فالله تعالى يقول لبيان رسالتك أظهر من أن يذكر، وأما حذف المضرب عنه، فلأن المضرب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمر آخر إنما يحسن إذا كان بين المذكورين تفاوت ما، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب، مثاله يحسن أن يقال الوزير يعظم فلاناً بل الملك يعظمه، ولا يحسن أن يقال البواب يعظم فلاناً بل الملك يعظمه لكون البون بينهما بعيداً، إذ الإضراب للتدرج، فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران أحدهما: أنه يشير إلى أمر آخر قبله وثانيهما: أنه يجعل الثاني تفاوتاً عظيماً مثل ما يكون ومما لا يذكر، وهاهنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد.
المبحث الثالث: أن مع الفعل يكون بمثابة ذكر المصدر، تقول أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام، وتقول ما كان جوابه إلا أن قال وما كان جوابه إلا قوله كذا وكذا، وإذا كان كذلك فلم ينزل عن الإتيان بالمصدر حيث جاز أن يقال أمرت أن أقوم من غير حرف الإلصاق، ولا يجوز أن يقال أمرت القيام بل لابد من الباء، ولذلك قالوا أي عجبوا من مجيئه، نقول: {أَن جَاءهُمْ} وإن كان في المعنى قائماً مقام المصدر لكنه في الصورة فعل وحرف، وحروف التعدية كلها حروف جارة والجار لا يدخل على الفعل، فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقل من أن يجوز عدم الدخول، فجاز أن يقال: {عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ} ولا يجوز عجبوا مجيئهم لعدم المانع من إدخال الحروف عليه.
وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} يصلح أن يكون مذكوراً كالمقرر لتعجبهم، ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تعجبهم، أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون {أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24] و{قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [ياس: 15] إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم، وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا، فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه، فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية، فإن خاصية النعامة بلع النار، والطيور الطير في الهواء، وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلاً، ولكن تقرير الباطل كيف يجوز، نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله، فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم، وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب، فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم كان بشيراً ونذيراً والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيراً على كونه نذيراً، فلم لم يذكر: عجبوا أن جاءهم بشير منهم؟ نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعاً كان في حقهم منذراً لا غير.
ثم قال تعالى: {فَقَالَ الكافرون هذا شَيء عَجِيبٌ}.
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] فعجبوا من كونه منذراً من وقوع الحشر، ويدل عليه النظر في أول سورة ص حيث قال فيه {وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ} [ص: 4] وقال: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} [ص: 5] ذكر تعجبهم من أمرين والظاهر أن قولهم: {هذا شَيء عَجِيبٌ} إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ويدل عليه وجوه:
الأول: هو أن هناك ذكر {إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} بعد الاستفهام الإنكاري فقال: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} وقال هاهنا {هذا شَيء عَجِيبٌ} ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر. ثم قالوا: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} الثاني: هاهنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار، فإن قيل التكرار الصريح يلزم من جعل قولك {هذا شَيء عَجِيبٌ} عائداً إلى مجيء المنذر، فإن تعجبهم منه علم من قوله: {عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ} فقوله: {هذا شَيء عَجِيبٌ} يكون تكراراً، نقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير، وذلك لأنه لما قال: {بَلْ عَجِبُواْ} بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيباً كما قال تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لفعلكم وعجبكم فقالوا: {هذا شَيء عَجِيبٌ} فكيف لا نعجب منه، ويدل عليه أنه تعالى قال هاهنا {فَقَالَ الكافرون} بحرف الفاء، وقال في ص: {وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ} [ص: 4] لأن قولهم: {ساحر كَذَّابٌ} كان تعنتاً غير مرتب على ما تقدم، و{هذا شَيء عَجِيبٌ} أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك، فقالوا: {هذا شَيء عَجِيبٌ} فكيف لا نعجب منه، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] بلفظ الإشارة إلى البعد، وقوله هذا إشارة إلى الحاضر القريب، فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا، وذلك لا يصح إلا على قولنا.


{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}
فإنهم لما أظهروا العجب من رسالته أظهروا استبعاد كلامه، وهذا كما قال تعالى عنهم {قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ} [سبأ: 43]، {وَقَالُواْ مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} [سبأ: 43] وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فقوله: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} إنكار منهم بقول أو بمفهوم دل عليه قوله تعالى: {جَاءهُمْ مُّنذِرٌ} [ق: 2] لأن الإنذار لما لم يكن إلا بالعذاب المقيم والعقاب الأليم، كان فيه الإشارة للحشر، فقالوا: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً}.
المسألة الثانية: ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله: {هذا شَيء عَجِيبٌ} [ق: 2] إشارة إلى المجيء على ما قلنا، فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر.
وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك، والرجع مصدر رجع يرجع إذا كان متعدياً، والرجوع مصدره إذا كان لازماً، وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه، والرجع أيضاً يصح مصدراً للازم، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} أي رجوع بعيد، ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي، ويدل على الأول قوله تعالى: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} [العلق: 8] وعلى الثاني قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ} [النازعات: 10] أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي، فإن قلنا هو من المتعدي، فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8